تاريخ فرنسا

ينقسم تاريخ فرنسا إلى :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ما قبل التاريخ

رسم الكهوف في لاسكو.

أظهرت الدراسات، التي تعود بواكيرها الأولى إلى مطلع القرن التاسع عشر، أن الاستيطان البشري الأول في فرنسا الحالية يعود إلى نحو مليون سنة خلت، دلت عليه الأدوات الحجرية البدائية (القواطع) التي وجدت في جنوبي فرنسا (في مغارة فالونيه Vallonet)، ومنذ نحو نصف مليون سنة أصبح هذا الاستيطان أكثر انتشاراً وكثافة كما دلت مغارة كون دو لارغـو Caune de l’Argo في منطقة البيرينيه الشرقية الفرنسية، التي كُشف فيها عن طبقات أثرية عدة تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى (الباليوليت)، وتُنسب إلى الحضارة التياسية Tayacien المعروفة بتصنيع الأدوات المسننة والمفرَّضة. كما كُشف في الموقع عن عظام وجمجمة إنسان الهومو إركتوس Homo-erectus، وهي أقدم ما عُثر عليه حتى اليوم في أوربا. هذا الإنسان هو صانع الحضارة الآشولية ، التي تميزت باستخدام الفؤوس الحجرية والتي وُجدت أدواتها أول مرة في موقع سانت آشول Saint-Acheul في فرنسا، الذي أعطى اسمه لهذه الحضارة ذات الانتشار العالمي الواسع. ويُنسب إلى هذا العصر العديد من المواقع الأخرى بينها تيرا أماتا Terra Amata قرب نيس، الذي كُشف فيه عن أقدم دلائل استخدام النار (المواقد) وأول الأكواخ المبنية في العراء.

في العصر الحجري القديم الأوسط (بين نحو 200 -40 ألف سنة خلت)، انتهت الحضارة الآشولية واختفى معها إنسان الهومو إركتوس، الذي حلَّ مكانه إنسان النياندرتال Neanderthal، صانع الحضارة الموستيرية التي كشفت أول مرة في موقع موستير Le Moustier في منطقة الدردون Dordogne، وخاصة في منطقة ليزيزي Les Eyzies، التي جرت فيها أول دراسات ما قبل التاريخ وأهمها، وأخذ عدد من حضارات هذه العصور اسمه من مواقع فيها. كانت إقامة النياندرتاليون في مختلف مناطق فرنسا، ولاسيما في المغاور والملاجئ، حيث عُثر على كثير من هياكلهم العظمية؛ إذ كانوا أول من مارس دفن الموتى، في العديد من المواقع مثل لافيراسي La Ferrassie في منطقة الدردون. كما وُجدت في المواقع النياندرتالية، أول مرة، الأدوات العظمية والفنون البسيطة ودلائل استخدام الألوان. وهناك ما يشير إلى أن هؤلاء قد مارسوا عقيدة عبادة الدب، وكانوا مهرة في تصنيع الأدوات كالمقاحف وحراب الصيد وفق الطريقة اللوڤالوازيه، نسبة إلى موقع لوڤالواز Levallois قرب باريس.

في العصر الحجري القديم الأعلى، بين 40-10 آلاف سنة ق.م، اختفى إنسان النياندرتال وحل مكانه الإنسان العاقل Homo-sapiens المسمى أيضاً إنسان كرومانيون، نسبة إلى موقع كرومانيون Cro-Magnon في جنوبي فرنسا، حيث وُجدت الهياكل العظمية العائدة لهذا الإنسان أول مرة. لقد شهدت فرنسا في هذا العصر ازدهاراً وتنوعاً حضارياً لا مثيل له، دل عليه ليس فقط تطور تقانات تصنيع الأدوات الحجرية والعظمية والبناء في العراء وغير ذلك، وإنما الفنون بكل أنواعها، منقولة وثابتة، رسماً وحفراً ونحتاً. لقد تتابعت على فرنسا، وأوربا، حضارات عدة جسدت غنى هذه المرحلة وتقدمها، أولها كانت الحضارتان الشاتلبيرونيه Châtelperronien والبيريـغـوردية Périgordien، تلتهما الحضارة الأورينياسية Aurignacien التي وصلت تأثيراتها حتى الشرق الأوسط، وعرفت بفنونها المبهرة، كما ظهر في مغارة شوفـيه Chauvet في منطقة الأرديش Ardèche في جنوبي فرنسا، حيث كُشف في التسعينيات من القرن العشرين عن مئات الأشكال الفنية، المرسومة والمنحوتة بعناية فائقة، على جدران المغارة التي تجسد أنواعاً عديدة من الحيوانات، أهمها الفهد والضبع والحصان ووحيد القرن والماموت وغيرها. وقد أُرخت إلى أكثر من ثلاثين ألف سنة خلت لتكون أقدم الفنون، بمعناها الحقيقي، معروفة في العالم حتى اليوم. بعد ذلك أتت الحضارة الغرافيتية Gravettien، التي انتشرت على مساحات واسعة في شرقي وغربي أوربا منذ نحو 25 ألف سنة ق.م، وعُرفت بمواقعها الكبيرة التي تدل على تجمعات سكانية مهمة (قرى).

قبل نحو 20 ألف سنة ق.م، ظهرت الحضارة السولوترية Solutréen التي اشتهرت بفنونها الرائعة، بينها التماثيل الإنسانية المعروفة «بـڤـينوس العصر الحجري»، وإبداعات أخرى بلغت القمة في عصر الحضارة المجدلانية Magdalenien التي بدأت منذ نحو 15 ألف سنة ق.م، واستمرت حتى نهاية العصر الحجري القديم. يُنسب إلى هذه الحضارة العديد من المواقع الفرنسية، التي كُشف فيها عن فنون مهمة، على رأسها مغارة لاسكو Lascaux في جنوبي فرنسا، التي غطت جدرانها مئات الأشكال الفنية الرائعة لحيوانات مختلفة، كالثور والفرس والغزال، وآلاف الإشارات والأشكال الغريبة والغامضة، والتي لازالت تثير نقاشاً حاداً حول حقيقة دور هذه الفنون ووظيفتها.

منذ نحو 10 آلاف سنة ق.م.، انتهى العصر الجليدي في أوربا واختفت الحضارة المجدلانية وغابت الفنون والإبداعات المرافقة الأخرى، ودخلت فرنسا في مرحلة العصر الحجري الوسيط الميزوليت Mésolithique، وتعاقبت على فرنسا في هذا العصر حضارات بسيطة وفقيرة اشتهرت خاصة بتصنيع الأدوات المركبة، الدقيقة والهندسية الأشكال Microlithique- géométrique، وهي على التوالي: الحضارة السوفـترية Sauveterrien والتاردنوازية Tardenoisien والكاستيلنوفـية Castelnovien وأخيراً الأزيلية Azilien، التي شكلت المرحلة الانتقالية بين مجتمعات الاستقرار والزراعة اللاحقة.

في مطلع الألف السادس ق.م تقريباً (العصر الحجري الحديث النيوليت Néolithique)، دخلت فرنسا في مرحلة الزراعة وتدجين الحيوان، وتدل الأبحاث على أن ابتكارات هذا العصر التي عُرفت «بالثورة الزراعية» قد وصلت إلى أوربا وفرنسا عبر نهر الدانوب، من منطقة المشرق العربي القديم، حيث حصلت هذه الثورة منذ الألف الثامن ق.م. وكُشف عن أقدم المجتمعات الزراعية لهذا العصر في جنوبي فرنسا وتُعرف باسم «حضارة كارديال» نسبة إلى الأواني الفخارية المزخرفة بخطوط تشبه صوف الكارديوم Cardium، تبعها في منتصف الألف السادس حضارة الكارديال الأخيرة épi-cardial.

في الألفية الخامسة ق.م.، ظهرت حضارة جديدة عُرفت بتصنيع الأواني الفخارية المزخرفة بخطوط متتالية Céramique linéaire اشتهرت بتشييد البيوت والمدافن الكبيرة ووصلت تأثيراتها حتى الحوض الباريسي. في الألفية الرابعة ق.م.، انتشرت المجتمعات النيوليتية على كامل الأراضي الفرنسية، مثلتها المجموعات التابعة للحضارة الشاسية Chasséen التي صنّعت الأواني الفخارية عالية الجودة وأوصلت مختلف الإنجازات السابقة إلى قمتها. وهكذا استمرت المجتمعات النيوليتية عبر جماعات، تميزت من بعضها، حسب مناطق تواجدها، بوساطة أدواتها وفخارها وبنائها وقبورها الضخمة Mégalithes.

يعد الألفية الثالثة ق.م.، عصراً انتقالياً بين العصر الحجري والعصر البرونزي، وهي مرحلة العصر الحجري - المعدني، الكالكوليتي Chalcolithique، التي استخدم فيها معدن النحاس أول مرة، وعاشت فيها مجتمعات، بعضها متنقل، كانت لها علاقات تجارية بعيدة، وتبادلت خامات الصوان والأوبسيديان والنحاس والعنبر، وقامت فيها هجرات واسعة دلَّ عليها الانتشار الواسع للأواني الفخارية، ذات الشكل الجرسي Campaniforme التي تعود أصولها إلى مناطق القوقاز. أتت أيضاً من هذا العصر قبور مغاليتية جماعية، مثل موقع آلّيه كوفـيرت Allée couverte في الحوض الباريسي.

يُؤرخ عصر البرونز بين 2000-800 سنة ق.م، حصلت فيه تطورات اجتماعية واقتصادية جديدة،؛ فانتشرت القرى الزراعية الكبيرة التي يديرها قادة، أمراء دلت عليهم قبورهم التي كانت على شكل أكوام حجرية Tumulus وغنية بمختلف أنواع الأسلحة المعدنية والأدوات النفيسة، بينها العديد من قبور النساء الغنية بالمجوهرات، كما مُورست لأول مرة عادة حرق الجثث ودفنها في جرار فخارية Champ d Urnes، وتطورت صناعات التوتياء والرصاص على حساب البرونز، ومُورست فنون ومعتقدات جديدة دلت على مجتمعات قطعت شوطاً حضارياً طويلاً.


الگال

في الألفية الأولى ق.م.، بدأ العصر الحديدي (800-50 ق.م.)، وسادت في النصف الأول منه حضارة هالشتات Hallstatt، التي كانت مزيجاً من تأثيرات من مختلف أرجاء أوربا، بما فيها منطقة اليونان والأتروسكيين، الذين أقاموا أول مستوطناتهم في مناطق مثل سان بليز Saint Blaise، ثم مرسيليا. وشهدت هذه المرحلة تطور الإمارات الهالشتاتية التي وقف على رأسها أمراء الخيالة، الفرسان. في النصف الثاني من عصر الحديد سادت حضارة لاتين La Tène التي صنعتها الشعوب الكلتية Celtes وبينهم الگال Gaulois.

بلاد الگال الرومانية

ڤرسان‌گتوريكس Vercingetorix يستسلم ليوليوس قيصر بعد معركة ألسيا. لوحة بريشة ليونل-نويل روار، 1899.
جنود من الغال.

وحصلت إنجازات كبيرة في مجال تصنيع المعادن والفنون والتجارة، كما ظهرت اوپيدم Oppidum (أي المدن المسوَّرة) الأولى ، ذات المنشآت الدفاعية والاقتصادية والإدارية المتكاملة، التي شيدها الكلت لمقاومة الامبراطورية الرومانية، التي خاضوا ضدها حروباً طاحنة، إلى أن استطاع يوليوس قيصر إخضاعهم وضمَّ فرنسا إلى سلطته الامبراطورية في منتصف القرن الأول ق.م. لكن بلاد الغال غدت إحدى أهم مناطق الامبراطورية الرومانية ازدهاراً. وفي العهد الغالي-الروماني Gallo-Romaine سادت حضارة متطورة في عمارتها وفنونـها وتجارتها ولغتها اللاتينية دلت عليها مـدن تاريخية مثل آرل Arles ونيم Nîmes. ومنذ القرن الثالث الميلادي بدأت غزوات الشعوب الجرمانية ضد بلاد الغال. وما إن حل القرن الخامس حتى قضت هذه الشعوب على الامبراطورية الرومانية، ثم تمكن الفرنجة Les Francs في عهد ملكهم كلوڤيس الأول Clovis، في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس، من تأسيس الأسرة الميروڤنجية Mérovingiens، وحولت المدن والمعابد الرومانية إلى كنائس مسيحية، وظهر تحالف قوى بين الدولة والكنيسة عندما عيَّن شارلمان الكبير Charlemagne امبراطوراً على فرنسا وألمانيا وشمالي إيطاليا في القرن الثامن الميلادي، ثم ما لبثت هذه الامبراطورية أن قُسمِّت بين خلفائه لتظهر في القرن التاسع الميلادي مملكة فرنسا في العصور الوسطى.[1]

الأيام الأخيرة من تاريخ گالة القديمة

كانت گالة في القرنين الرابع والخامس أكثر الولايات الغربية في الإمبراطورية الرومانية رخاء من الناحية المادية وأعظمها رقياً من الناحية العقلية. فقد كانت ترتبها خصبة كريمة، وصناعتها اليدوية متقدمة، وأنهارها وبحارها تعج بالمتاجر وكان نربونه وأرْليز، وبردو، وطولوز (طلوشة)، وليون، ومرسيلية، وبواتيه، وتريبه جامعات مزدهرة تنفق عليها الدولة، وكان المدرسين، والخطباء، والشعراء، والحكماء منزلة لا ينالها في العادة إلا رجال السياسة والملاكون. وفي أيام أوسنيوس وسيدنيوس عقد لغالة الزعامة الأدبية في أوربا كلها.

وكان ديسموس أوسنيوس Deecimus Magnus Ausonius شاعر العصر الفضي في غالة، وفيه تتمثل روح هذا العصر. وقد ولد في بردو حوالي عام 310، وكان والده كبير أطبائها، وفيها تلقى علومه، وقد حدث العالم فيما بعد في شعر كريم سداسي الأوتاد عن فضائل معلميه، ذكر فيه بسماتهم وأغفل ضرباتهم(25). وسارت حياته بعدئذ سيراً هادئاً مطمئناً حتى عين أستاذاً في بردو وظل يعلم "النحو" (وكان يقصد به وقتئذ الأدب) و "البلاغة" (أي الخطابة والفلسفة) نحو ثلاثين عاماً، وكان مربياً للإمبراطور جراتيان قبل أن يتولى عرش الإمبراطورية. وإن فيما كتبه عن والديه وأعمامه وأخواله، وزوجته، وأبنائه وتلاميذه ما يوحي بأن حياته في البيت وفي خارجه كانت شبيهة بحياة المدن الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر. وهو يصف بعبارات جذابة البيت والحقول التي ورثها عن أبيه، ويحدثنا عن المكان الذي يرجو أن يقضي فيها أخريات أيامه، ويقول لزوجته في سني زواجهما الأولى. "فلنعش على الدوام كما نعيش الآن، ولنحتفظ بالاسمين اللذين سمى بهما كلانا الآخر في بداية حبنا... ويجب أن يبقى كلانا في سن الشباب، وستكونين على الدوام جميلة في عيني، وعلينا ألا نحسب حساباً لمر السنين"(26). على أنهما سرعان ما فقدا أول طفل رزقه منها، وقد كتب يحي ذكراه بعبارات تفيض بالحب فقال: "لن أتركك دون أن أبكيك يا بكر أبنائي وباسمي. لقد اختطفك الموت منا في الوقت الذي كنت تحاول فيه أن تبدل لغطك إلى أولى كلمات الطفولة... إنك الآن ترقد على صدر والد جدك الذي تشاركه قبره"(27). وماتت زوجته ولم يمض على زواجهما الموفق إلا زمن قليل، وتركت له ابناً وبنتاً؛ وقد بلغ من حبه ووفائه لها أنه لم يتزوج قط بعد؛ ووصف في شيخوخته ألمه لفقدها ولوعته التي لم يخففها مر السنين، كما وصف السكون المحزن المخيم على بينهما الذي طالما عرف عناية يديه وأحس بنغم وقع قدميها.

وكان الناس في أيامه يحيون قصائده لما فيها من عواطف رقيقة، وصور ريفية جميلة، ولغتها اللاتينية الخالصة، ولشعرها الذي لا يكاد يقل في رقته عن شعر فرجيل. وكان بولينس الذي أصبح فيما بعد من القديسين، يشبه نثره بنثر شيشرون، وكان سيماخوس يقول إنه لا يستطيع أن يجد في شعر فرجيل شيئاً أجمل من قصيدة موزلا Mosella التي وصف فيها أوسنيوس نهر الوزل. وكان الشاعر قد أولع بذلك النهر حين كان مع جراتيان في ترييه. ويقول في وصفه إنه يجري وسط جنة حقه من الكروم، والبساتين والقصور الصغيرة ذات الحدائق، والمزارع الفاخرة الغنية، ونكاد نحس في وقت ما بخضرة شواطئه، وموسيقى جريانه. ثم لا يلبث أن يتدلى من هذا المستوى الرفيع فيصف في عبارات تتكرر مراراً ما في مجرى النهر من سمك لطيف. وتذكرنا هذه الرغبة الجامحة في ذكر الأقارب والمدرسين، والتلاميذ، والسمك بكتابات هوتمان Whitman ولكنها ينقصها شعور هوتمان الفياض وفلسفته القوية اللذين يخففان من سآمتها. وسبب ذلك النقض أن أوسنيوس بعد أن ظل ثلاثين عاماً يعلم النحو كان يصعب عليه أن يضمن عباراته شيئاً غير العاطفة الأدبية. فقصائده مسبحة صداقة، وأوراد مدح، ولكن الذين لم يعرفوا منا أمثال أولئك الأعمام والأخوال الذين نفتتن بحبهم، أولئك الأساتذة الذين يُغرونا بتمجيدهم قلما يتأثرون بهذا المديح.

ولما توفي فلنتيان الأول (375)، وجلس جراتيان على عرش الإمبراطورية استدعى إليه معلمه القديم، وأفاض عليه وعلى من معه كثيراً من المنح السياسية. فعين أوسنيوس حاكماً على إليركم Illyricum وإيطاليا، وأفريقية وغالة، واحدة بعد واحدة في فترة قصيرة، ثم عين آخر الأمر قنصلاً وهو في سن التاسعة والستين، وبفضل مشورته أصدر جراتيان مراسيم تفرض إعانات من الدولة لشؤون التعليم، وللشعراء، والأطباء، ولحماية روائع الفن القديم. وبفضل نفوذه أيضاً عين سيمكس حاكماً على روما، وبولينس والياً على إحدى الولايات وحزن أوسنيوس حين اعتزل بولينس شؤون الدنيا وانقطع للدين، لأن الإمبراطورية المهددة من جميع نواحيها كانت في حاجة إلى أمثاله. نعم إن أوسنيوس نفسه كان أيضاً مسيحياً، ولكن لم يكن جاداً كل الجد في مسيحيته، فقد كانت ميوله، وموضوعات شعره، وأوزانه، وما فيه من أساطير كلها وثنية وسارة مطربة.

ولما بلغ الشاعر سن السبعين عاد إلى بردو حيث عاش عشرين سنة أخرى. وكان وقتئذ حياً، في وسعه أن يوفق في قصائد البنوة التي نظمها في شبابه وبين حب الأجداد لأحفادهم حين يبلغ هؤلاء الأجداد الشيخوخة. انظر إليه وهو يقول لحفيده: "لا تخف، وإن كان صدى الضربات الكثيرة يتردد في المدرسة، وإن تجهم وجه المدرس، ولا ترتعد فرقاً إذا سمعت في أثناء ساعات الصباح صراخاً أو طرق أذنيك صوت العصا، فإذا كان المدرس يتخذ العصا صولجاناً يهزه بيده، وإذا رأيت لديه مجموعة كاملة من العصي... فليس هذا أو ذاك إلا مظهراً خارجياً يبعث به الخوف الكاذب في النفوس. لقد مر أبوك وأمك بهذا كله في أيامهما، ثم عاشا بعدهما ليخففا عني في شيخوختي الهادئة الصافية عبء السنين"(28). وما أسعد حظ أوسنيوس إذ عاش ومات قبل أن يجتاح البلاد تيار البرابرة الجارف.

وكانت منزلة أبلينارس سيدونيوس Appolinaris Sidonius في النثر الغالي أثناء القرن الخامس كمنزلة أوسنيوس في الشعر الغالي في القرن الرابع. لقد خرج سيدونيوس على العالم فجأة مدينة ليون (432) حيث كان يقيم أبوه حاكم غالة. وكان جده قد شغل هذا المنصب نفسه قبل أبيه، وكانت أمه من أقارب أفتوس Avitus الذي جلس على عرش الإمبراطورية في عام 455. والذي تزوج سيدونيوس بابنته عام 452. وكانت كل هذه سبلاً ممهدة يصعب على الإنسان أن يجد خيراً منها. وجاءت إليه ببيانلا ببائنة هي قصر ريفي مترف بالقرب من كليرمنت Clermont. وقد قضى عدداً من سني حياته في الذهاب لزيارة أصدقائه من النبلاء والعودة من هذه الزيارات. وكان أولئك الأصدقاء أناساً ذوي ثقافة ورقة يميلون إلى الدعة والمغامرة(29)، يعيشون في بيوتهم الريفية، وقلما يغمسون أيديهم في رجس السياسة. وكان في وسعهم أن يحملوا حياتهم الناعمة المترفة من الغزاة القوط. ولم يكونوا يهتمون بحياة المدن، فقد أخذ ذوو الثراء الواسع من الإنجليز والفرنسيين في ذلك العهد يرون ما في حياة الريف من متع لا توجد في المدن، وقد جمعت هذه البيوت الريفية المنبسطة ذات الحدائق كل وسائل الراحة وأسباب الجمال، من أرض مرصوفة بالفسيفساء، وأبهاء ذات عمد، وجدران منقوشة عليها مناظر طبيعية، وتماثيل من الرخام أو البرونز ومواقد فخمة، وحمامات، وحدائق وملاعب تنس(30)، ومن حولها غياض يستطيع الرجال والسيدات أن يصيدوا فيها ويطلقوا البزاة. وكان بعضها يحتوي 125 حجرة، وفي كل منها إلا القليل النادر مكتبة عامرة بالكتب، فيها كتب الوثنين القديمة وبعض النصوص المسيحية الجليلة(31). وكان بعض أصدقاء سودونيوس نفسه من هواة جمع الكتب ولا ريب في أنه كان في غالة كما كان في روما كثير من الأثرياء الذين يقدرون تجليد الكتب الجميلة أكثر مما يقدرون محتوياتها وحدها، ويقنعون بالثقافة التي يستطيعون أن يحصلوا عليها من جلود كتبهم.

ويضرب لنا سيدونيوس أحسن مثل لهذه الحياة اللطيفة -حياة حسن الضيافة والمجاملة، والبهجة، والآداب الراقية، وما فيها من شعر جيد الصقل، ونثر حلو النغم. ولما ذهب أفنوس إلى روما ليجلس على عرش الإمبراطورية، صحبه سودنيوس، واختير ليلقي بين يديه خطاب الترحيب (456)، ثم عاد إلى غالة بعد سنة من ذلك الوقت مع أفنوس المخلوع؛ ولكننا نجده في روما مرة أخرى في عام 468 يشغل منصب محافظ المدينة حين كانت الدولة في آخر مرحلة من مراحل الانهيار. وكان الرجل يسير مطمئناً وسط هذه الفوضى، فاستطاع بذلك أن يصف المجتمعات العليا في غالة وروما في رسائل من طراز رسائل بلني وسيماخوس، ولا تقل عن رسائلهما مباهاة وظرفاً. ولم يكن الأدب في ذلك الوقت يجد ما يتحدث عنه إلا القليل، وقد بُذل في هذا القليل من العناية ما أبقى على شكل هذا الأدب وسحر ألفاظه بعد أن ذهب كل ما عداهما، وخير ما يمكن أن يقال عن هذه الرسائل أنها حوت ما في طبيعة الرجل المهذب المتعلم من تسامح وظرف وتفاهم وتعاطف. وهي الصفات التي أزدان بها أدب فرنسا منذ تلك الأيام التي لم فيها أدباً فرنسياً. وقد جاء سيدونيس إلى غالة بما يمتاز به الرومان من حب الحديث الممتع اللطيف الذي بدأ بشيشرون وسنكا وانتقل عن طريق بلني وسيماخوس، ومكروبيوس، وسيدونيوس إلى مونتاني ومنتسكيو، وفلتير، ورينان، وسانت بيف، وأناتول فرانس، وهؤلاء يكونون سلسلة متصلة الحلقات، ومن نعم الله أنهم يكادون يكونون كلهم ذوي عقلية واحدة.

وإذ كنا لا نحب أن نعطى القارئ صورة غير صادقة لسودونيوس، فلابد لنا أن نضيف هنا أنه كان مسيحياً صالحاً، وأسقفاً شجاعاً. وقد وجد الرجل نفسه، على حين غفلة ، وعلى كره منه، يندفع من منزلته المدنية العلمانية إلى أسقفية كليرمنت. وكان على الأسقف في تلك الأيام أن يكون حاكماً إدارياً وهاداً روحياً في آن واحد. وقد كان ذوو التجارب والثراء أمثال أمبروز وسيدونيوس يمتازون بمؤهلات أقوى أثراً وأعظم نفعاً في مناصبهم الجديدة من علوم الدين مهما تعمقوا فيها. وإذا كان سيدونيوس لم يُحصَل من هذه العلوم إلا القليل، فإنه لم يكن يصبّ اللعنات الدينية إلا على القليلين، وكان بدل أن يشغل نفسه بهذا يعطى صحافة الفضية للفقراء، ويغفر ذنوب الناس بسرعة روّعت الكثيرين من رجال الدين. ونتبين من إحدى رسائله أنه كان في بعض الأحيان يقطع صلوات المصلين في كنيسته حين يتناولوا بعض المرطبات(23). ثم حطمت الحقيقة المرة هذه الحياة الممتعة حين قرر أوريكEuric ملك القوط الغربيين أن يضم أوفرني Auvergne إلى البلاد الخاضعة لحكمه. وظل القوط يحاصرون كليرمنت عاصمة هذه الولاية كلما حل فصل الصيف أربع سنين متوالية. وكان سيدونيوس يقاتلهم بالسياسة وبالصلوات، ولكنه عجز عن صدهم. ولما سقطت المدينة أخر الأمر، أسر، وسجن في حصن بالقرب من كاركسن Carcassonne (475)؛ ثم أطلق سراحه بعد علمين وأعيد إلى كرسيه. ولسنا نعرف كم من الزمن عاش بعدئذ، ولكنا نعلم أنه قبل أن يتجاوز الخامسة والأربعين من عمره كان يتمنى أن "يتخلص من آلام الحياة الحضرة ومتاعبها بأن يعجل الله بمنيته"(32) ذلك أنه كان قد فقد إيمانه بالإمبراطورية الرومانية، وبنى كل آماله في تقدم الحضارة على الكنيسة الرومانية. وقد غفرت له الكنيسة ما في شعره من نزعة وثنية وضمته إلى جماعة القديسين.

الفرنجة: 340-511

أرخى ليل الهمجية سدوله على غالة بعد موت سيدويوس. على أننا ليس من حقنا أن نبالغ في ظلام هذا الليل. فقد ظل الناس في خلاله يحتفظون بمهاراتهم الاقتصادية، فكانوا يتجرون" ويسكون النقود، ويقرضون الشعر، ويشتغلون بالفن، وقد بلغت مملكة القوط الغربيين في جنوبي غالة الغربي أيام ملكيها أوريك Euric(484-507) وألريك الثاني (484-507) درجة من النظام، والحضارة، والرقى، أطلقت لسان سيدونيوس نفسه بالثناء عليها(34). وفي عام 506 نشر أريك الثاني موجزاً من القوانين لمملكته، وكان دستوراً مستنيراً بالنسبة لغيره من دساتير ذلك الوقت، فقد كان يقرر العلاقة بيت السكان الرومان الغالبين والفاتحين على قواعد ثابتة قائمة على العقل. وسن ملوك برغندية في عام 510 دستوراً شبيها بهذا، وكان هؤلاء الملوك قد أسكنوا شعبهم في جنوبي غالة الشرقي وبسطوا سلطانهم على هذا الإقليم بطريق السلم، وظلت أوربا اللاتينية تحكمها الشرائع القوطية والبرغندية وشرائع الفرنجة التي لا تختلف عنهما كثيراً، حتى عادت الشرائع الرومانية إلى الوجود في بولونيا في القرن الحادي عشر الميلادي.

ويبدأ التاريخ يحدثنا عن الفرنجة في عام 240 حين هزمهم الإمبراطور أورليان بالقرب من مينز، واستقر الفرنجة الربواريون Ripuarian (أي الشاطئيون) في بداية القرن الخامس من منحدرات الرين الغربية، واستولوا على كولوني (463)، واتخذوها عاصمة لهم ، وبسطوا سلطانهم على وادي الرين من آخن Aechen إلى متز. وبقيت بعض قبائل الفرنجة على ضفة النهر الشرقية وأطلقوا اسمهم على فرنكونيا Franconia. وربما كان الفرنجة الساليون The Salic Franks وقد اشتقوا اسمهم من نهر سالا Sala(المعروف الآن باسم إجسل Ijssel الذي يجري في الأرض الوطيئة. ثم تحركوا من هذا الإقليم نحو الجنوب والغرب، واحتلوا حوالي عام 356 الإقليم الواقع بين نهر الموز Meuse والمحيط ونهر السوم Somme. وكان أكثر انتشارهم بطريق الهجرة السليمة بل أن الرومان أنفسهم كانوا يدعونهم أحياناً إلى أن يعمروا الأراضي القليلة السكان. وبهذه الوسائل المختلفة أصبحت غالة الشمالية نصف فرنجة قبل أن يحل عام 430. وقد جاء الفرنجة معهم بلغتهم الألمانية وعقيدتهم الوثنية، وكان من أثر هذا أن اللغة اللاتينية لم تعد اللغة التي يتحدث بها المقيمون على مجرى الرين الأدنى، كما لم تعد المسيحية دين هؤلاء الأقوام.

ويصف الفرنجة الساليون أنفسهم في مقدمة "القانون السالي" بأنهم " الشعب المجيد، الحكيم في مجالسه، النبيل في جسمه، الذي تشع منه الصحة والعافية، الممتاز بجماله، الجريء، السريع، الذي لا تلين له قناة ... هذا هو الشعب الذي ألقى على عاتقه نير الرومان(35). ولم يكونوا يعدون أنفسهم برابرة بل كانوا يقولون إنهم رجال أحرار انتزعوا حيتهم بأيديهم، ومعنى لفظة فرنجة Franks هو الحر، الذي نال حقوقه السياسية. وكانوا طوال القامة، شقر الوجوه، يجمعون شعرهم الطويل يعقدونه فوق رؤوسهم، ثم يتركونه يسقط منها أشبه ما يكون بذيل الحصان، وكانوا يطيلون شواربهم، ويحلقون لحاهم، ويشدون قباءهم على وسطهم بأحزمة من الجلد مغطاة في بعض أجزائها بقطع من الحديد المطلي بالميناء. وفي هذه المنطقة يعلق السيف. والبلطة الحربية، وبعض أدوات الزينة كالمقصات والأمشاط(36)؛ وكان الرجال والنساء مولعين بالحلي، يتزينون بالخواتم، والأساور وعقود الخرز. وكان كل رجل قوي الجسم جندياً محارباً، يتعلم منذ صباه الجري، والقفز، والسباحة، وإصابة الهدف بالحربة أو البلطة. وكانت الشجاعة عندهم أسمى الفضائل كلها، من أجلها يغتفر القتل، والنهب، والاغتصاب، ولكن التاريخ، بما يلقيه من ضوء ساطع على بعض الحوادث دون بعضها الآخر، يخطئ في تصوير الفرنجة إذ يدخل في روعنا أنهم أقوام محاربون لا غير. والحق أن فتوحهم ووقائعهم الحربية لم تكن أكثر من فتوحنا نحن ووقائعنا، كما كانت أقل منها أتساعاً وتخريباً. ويسدل من شرائعهم على أنهم كانوا يشتغلون بالزراعة والصناعات اليدوية، وانهم أنشئوا في شمالي غالة الشرقي مجتمعاً ريفياً مزدهراً يتمتع عادة بالسلام.

وقننت الشرائع السالية في بداية القرن السادس، وأكبر الظن أن ذلك كان في نفس الجيل الذي شهد آخر مرحلة من مراحل تطور قوانين جستنيان الرومانية. ويقولون إن "أربعة من الزعماء الموقرين" هم الذين كتبوه، وإن ثلاثة جمعيات شعبية متتالية بحثته وأقرته(37). وكانت الطريقة المتبعة في محاكم المتهمين هي طريقة التحكيم الإلهي والاستعانة بالشهود الذين يقسمون أن المتهم برئ. فإذا تعهد عدد كاف من الشهود الصالحين لهذه الشهادة أن المدعي عليه طيب الخلق، برئ من أية تهمة لا وجد دليل قاطع على أنه ارتكبها. وكان عدد الشهود يختلف تبعاً لجسامة الجرم المنسوب إلى المتهم : فسبعة وسبعون شاهداً يكفون لتبرئة المتهم بالقتل، ولكن لما أن اتهمت إحدى ملكات فرنسا في عفتها تطلب الأمر ثلاثمائة من النبلاء يشهدون بصحة انتساب ابنها إلى أبيه(38). فإذا ظل الأمر بعد هذا موضعاً للشك اتبع قانون التحكيم الإلهي. من ذلك أن المتهم كانت تربط يداه وقدماه ويلقى في النهر، فإذا غطس كان بريئاً، وإذا طفا كان مذنباً (وذلك لأن الماء كانت تقرأ عليه رقى خاصة في حفل ديني تجعله يرفض الشخص المذنب)(39)؛ أو كان يطلب إلى المتهم أن يمشي حافي القدمين في نار متقدة أو فوق حديد يحمى حتى يحمر من الحرارة؛ أو يمسك بيده قطعة من الحديد محمية إلى هذه الدرجة ويظل قابضاً عليها مدة محددة من الزمن؛ أو يضع ذراعه عارية في وعاء به ماء يغلي ويخرج شيئاً من قاع الإناء؛ أو يقف المدعي والمدعي عليه ويمدان ذراعيهما على هيئة صليب ويظلان كذلك حتى تثبت التهمة على أحدهما إذا أنزل ذراعه من شدة التعب؛ أو يأخذ المتهم ماء القربان المقدس، فإذا كان مذنباً فلا بد أن تحل به نقمة الله. وكانت المبارزة تفصل أحياناً في النزاعيين حرين إذا بقى بعد إيراد الأدلة القانونية مجال للشك المعقول. وتدل الأبستاق على أن التحكيم الإلهي بالماء المغلي كان من الوسائل التي يستخدمها الفرس الأقدمون. وقد ورد في قوانين مانو Mnau (قبل عام 100م) شئ من التحكيم الإلهي عند الهنود بالإغراق في الماء، كما ورد ذكر التحكيم الإلهي بطريق النار أو الحديد المحمى في مسرحية أنتيجون لسفكليز(40). أما الساميون فكانوا يرون أن هذا التحكيم يأباه الدين ولذلك كانوا يرفضونه، وكان الرومان يرون أنه خرافة، أما الألمان فقد ساروا فيه إلى آخر مرحله؛ وقبلته الكنيسة المسيحية وهي كارهة، وأحاطته بمراسيم دينية، وأيمان مغلظة.

والمحاكمة بالاقتتال قديمة قدم التحكيم الإلهي. ويصفه ساكسو جراماتيكوس Aaxo Grammaticus، بأنه كان إجبارياً في الدنمرقة في القرن الأول الميلادي؛ وتدل شرائع الإنكليز؛ والسكسون، والفرنجة، والبرغنديين، واللمبارد على أنه كان شائعاً بينهم، وقد وجده القديس بتريك في ايرلندة، ولما أن شكا مسيحي روماني إلى جندوباد Oondobab ملك برغانديا وقال له أن هذا التحكيم لا يحكم على الجريمة بل على المهارة، أجابه الملك بقوله :"أليس حقاً أن نتائج الحروب المبارزات إنما تتقرر بقضاء الله، وأن العناية الإلهية تؤيد بنصرها القضية العادلة ؟"(41). وكان كل ما حدث في هذا الأمر بعد ا، اعتنق البرابرة الدين المسيحي أن تبدل اسم الإله الذي يحكمونه فيما بينهم. وليس في وسعنا أن نحكم على هذه العادات أو نفهمها إلا إذا وضعنا أنفسنا في مكان قوم يؤمنون إيماناً لا يقبل الجدل بأن الله هو الذي يسبب الحوادث جميعها، وأنه لا يرضى عن أي حكم غير عادل. وأمام هذه التجربة المرعبة كان المدعون الذين لا يثقون من عدالة قضاياهم أو من قوة بيناتهم يترددون كثيراً قبل أن يشغلوا المحاكم بقضاياهم وشكايتهم؛ كما أن المتهمين المجرمين كانوا يتهربون من التحكيم الإلهي ويعرضون أن يؤدوا بدلاً منه تعويضاً للمدعين.

ذلك أنه كان لكل جريمة ثمنها، وكان في وسع المتهم عادة أن يفتدي نفسه بأن يؤدي التعويض المقرر للجريمة المتهم بها على أن يكون ثلثه للحكومة، ثلثه لمن وقعت عليه الجريمة أو لأسرته، وكان المبلغ المفروض يختلف باختلاف منزلة من وقعت علية الجريمة، ولهذا كان المجرم الملم بالشئون الاقتصادية يدخل في حسابه عدداً كبيراً من الحقائق. فإذا لطم رجل يد امرأة في غير حياء فرضت عليه غرامة مقدارها خمسة عشر ديناراً ( نحو دولارين أمريكيين وربع دولار)؛ وإذا لطم عضدها غرم خمسة وثلاثين ديناراً (25ر5 دولارات)، فإذا مس صدرها بغير رضاها غرم خمسة وأربعين ديناراً (75ر6 دولارات)(42). ولم يكن هذا التقدير باهظاً إذا قيس بغيره من الغرامات : فقد كان جزاء اعتداء روماني على فرنجي أو سرقته بإكراه غرامة قدرها 2500 دينار (375دولار)؛ وتخفض هذه الغرامة إلى 1400 ديناراً إذا اعتدى فرنجي على روماني أو سرقه؛ إذا قتل فرنجي رومانياً غرم القاتل 8000 دينار تخفيض إلى أربعة آلاف(43) إذا كان المقتول رومانياً؛ إلى هذه الدرجة انحطت منزلة الروماني العظيم في أعين الفاتحين، وإذا لم ينل المعتدي عليه أو أقاربه للتعويض الكافي، كان من حقهم أن ينتقموا لأنفسهم من المعتدي؛ وبهذه الطريقة كانت سلسلة الانتقام وسفك الدماء تدوم بين الخصوم عدة أجيال، وكانت الغرامات والبارزات القضائية خير الوسائل التي استطاع الألمان البدائيون ابتكارها لكبح جماح غريزة الانتقام وإحلال القانون محلها.

ونصت أهم مادة في القانون السالي على أنه "لا يجوز أن ترث امرأة شيئاً من الأراضي السالية (المادة السادسة). واعتمدت فرنسا على هذه المادة في القرن الرابع عشر فرفضت ادعاء الملك إدوارد الثالث من إنكلترا حقه في عرش فرنسا الذي يرثه عن طريق أمه إزابل Esabelle؛ وأدى هذا الرفض إلى نشوب السنين المائة. وكانت هذه المادة مقصورة على الأملاك الثابتة (العقارات)، التي يفترض أنها تحتاج في حمايتها إلى قوة الرجال العسكرية، ويمكن القول بوجه عام إن القانون السالي لم يكن يرفع من شأن النساء. نعم إن دية المرأة كانت ضعفي دية الرجل(44)، لأنهم كانوا يدخلون في تقديرها أنها قد تكون أما للكثيرين من الرجال، ولكنه يفعل بهن ما يفعله القانون الروماني في أوائل عهده، فيضعهن على الدوام تحت وصاية آبائهن أو أزواجهن أو أبنائهن. وقد جعل القتل عقاب المرأة الزانية، ولكنه لم يكن يعاقب الزانى(45)، وكان يبيح الطلاق للرجل متى شاء هواه(46). وكانت العادة تبيح لملوك الفرنجة بأن يتزوجوا بأكثر من واحدة، وإن لم يبح ذلك القانون نفسه.

وكان أول ملوك الفرنجة المعروفين باسمهم هو كلوديو Chlodio الذي هاجم كولوني في عام 431؛ ولقد هزمه إيتيوس Aetius، ولكن كلوديو نجح في احتلال غالة من شرقها إلى نهر السوم في الغرب، واتخاذ تورناي عاصمة له. وخلفه على العرش ملك آخر يدعى مروفك Merovingian (ابن البحر) -وقد يكون هذا مجرد خرافة- وهو الذي سميت باسمه الأسرة المروفنجية Merovingian التي حكمت الفرنجة حتى عام 751. وأغوى ابنه كلدريك Childeric باسينا Basina زوجة أحد الملوك الثورنجيين Thuringian؛ فجاءت إليه لتكون ملكته، وقالت: إنها لا تعرف رجلا أحصف منه عقلا، أو أقوى منه جسماً، أن أجمل منه خلقاً. وولدت له كلوفوس Clovis، الذي أنشأ فرنسا والذي تسمى باسمه ثمانية عشر من الملوك الفرنسيين .

وورث كلوفيس عرش المروفنجيين في عام 841، وكان وقتئذ في الخامسة عشر من عمره، ولم تكن مملكته تشغل وقتئذ إلا ركناً من أركان غالة ، فقد كانت قبائل أخرى من الفرنجة تحكم ارض الترين، وكانت مملكتا القوط الغربيين والبرغنديين القائمتان جنوبي غالة قد استقلتا استقلالا تاماً بعد سقوط روما. وكان الطرف الشمالي العربي من غالة، الخاضع بالاسم لحكم روما حتى ذلك الوقت، ضعيفاً لا يجد من يدافع عنه، فغزاه كلوفيس، واستولى على الكثير من مدنه وعلى عدد من أكابر رجاله. ثم قبل الفدية منهم. وباع الغنائم، وابتاع الجند والمؤن، والأسلحة، وزحف على سواسون Soissons وهزم جيشاً "رومانياً" (486). ثم وسع فتوحه في السنين التالية حتى لامست حدود شبه جزيرة بريطاني، ونهر اللوار. وضم إلى جانبه السكان الغاليين بأن ترك لهم أراضيهم، كما ضم إليه رجال الدين المسيحيين بأن احترم دينهم وأبقى لهم ثروتهم. وفي عام 493 تزوج مسيحية تدعى كلوثيلد Clothilde، وما لبث أن اعتنق بتأثيرها الدين المسيحي على أساس العقائد النيقية، وعمده ريمي الأسقف والقسيس في ريمز أمام حشد من رجال الدين والأعيان، دعوا لهذا الغرض ولحكمة لا تخفى، من جميع أنحاء غالة، ثم تقدم كلوفيس إلى ميدان القتال يتبعه ثلاثة آلاف جندي. وربما كان سبب اعتناق كلوفيس الدين الجديد أنه كان يتوق إلى الوصول إلى شواطئ البحر المتوسط، وأنه كان يرى أن مُلك فرنسا خليق بأن يعتنق من أجله هذا الدين. وأخذ أتباع الدين القويم في غالة القوط الغربيين، وغالة البرغنديين، ينظرون إلى حكامهم شرراً، وأصبحوا من ذلك الحين حلفاء الملك الفرنجي الشاب في السر أو في العلن.

ورأى ألريك الثاني بداية هذا التيار الجارف، وحاول أن يصده بالكلام المعسول، فدعا كلوفيس إلى الاجتماع به، واجتمعا بالفعل في أمبواز Amboise وعقدا ميثاق الصداقة الدائمة، ولكن ألريك قبض على جماعة من الأساقفة أتباع الدين الأصيل بعد عودته إلى طولوز. لتآمرهم مع الفرنجة، فدعا كلوفيس جمعيته الحربية وخطبها قائلاً: "يعز على نفسي أرى هؤلاء الأريوسيين يمتلكون جزءاً من غالة، فلنخرج لطردهم منها بمعونة الله"(47).

ودافع ألريك عن نفسه بكل ما وسعه الدفاع ومعه شعب منقسم على نفسه؛ ولكنه هزم في فوييه Vouill( القريبة من بواتييه (507). وقتله كلوفيس بيده. "وبعد أن قضى فصل الشتاء في بردو" ، كما يقول جريجوري التوري Gregory Of Tours واستولى على جميع كنوز ألريك التي كانت في طولوز، زحف لحصار أبحوليم Angoul(me. ومنّ الله عليه بفضله فتساقطت أسوار المدينة من تلقاء نفسها". وها نحن أولاء نرى منذ ذلك الزمن(48) نغمة المؤرخ الإخباري التي بها العصور الوسطى. وكان سجيبرت الشيخ ملك الفرنجة الربواريين حليفاً لكلوفس من زمن بعيد. والآن أوحى كلوفيس إلى سديبرت بالميزات التي ينالها بعد موت أبيه. فقتل الابن والده وأرسل كلوفيس إلى القاتل شعائر الود والصداقة ومعها عماله ليقتلوه. فلما تم ذلك لكلوفيس زحف على كولوني وأقنع زعماء الربواريين بأن يرتضوه ملكاً عليهم. ويقول جريجوري في ذلك "وجعل الله أعداءه يخرون في كل يوم صرعى تحت قدميه ... لأنه كان يسير أمام الله بقلب سليم، ولأنه كان يفعل ما تقر به عين الله"(49).

وسرعان ما اعتنق الأريوسيون المغلوبون المذهب الصحيح، وسمح لقساوستهم أن يحتفظوا بمناصبهم الدينية بعد أن تخلوا عن الفارق بين المذهبين وهو فارق ليس ذا شأن كبير. ونقل كلوفيس عاصمته إلى باريس وسار إليها مثقلاً بالأسرى والعبيد، والدعوات الصالحات، ومات فيها بعد أربع سنين في سن الخامسة والأربعين. وجاءت الملكة كلوثيلد، التي كان لمعونتها بعض الفضل في إنشاء فرنسا الغالية، "إلى تور بعد موت زوجها ، وأدت الصلاة في كنيسة القديس مارتن، وعاشت في ذلك المكان عفيفة رحيمة طول أيام حياتها"(50).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ممالك الفرنجة (486–987)

معركة تور. هذه المعركة كثيراً ما تُعتبر ذات أهمية بالغة في تاريخ الاوروبي والإسلامي.

تعرضت بلاد الغال (غاليا Gallia - فرنسا الحالية) منذ مطلع القرن الخامس الميلادي إلى غزوات قبائل الفرنجة (الفرانك Franks) الذين أعطوا غاليا اسمهم، فصارت تعرف بـ «فرنسا» France. وتمكن هؤلاء من تأسيس مملكة كُتب لها البقاء والاستمرار، وحلت تدريجياً محل الامبراطورية الرومانية في القسم الغربي من العالم الروماني. فبعد أن عبر هؤلاء الراين واستقروا في بلجيكا وحوض الراين الأدنى، أخذوا بالتوسع في المناطق الغربية من غاليا الرومانية، من دون أن يتركوا مناطق استقرارهم عند نهر الراين الأدنى، وإنما أخذوا ينتشرون منها إلى غاليا، ويضيفون إلى أملاكهم إقليماً بعد آخر. وقد تمكن كلوفيس Clovis (Chlodwig) أحد قادة الفرنجة من أن يفتح غاليا بأسرها، ويقضي على الممالك الجرمانيـة القائمة على أرضـها، ويقيم على أنقاضـها المملكة المـيروفنجية Mérovingienne مـا بـين (481-751)، فاتخذ من آخن (اكس لاشاپل Aix-La-Chappelle) عاصمة دولته وأحسن إلى سكان البلاد، واعتنق المسيحية الكاثوليكية عام 496، وتبعه قومه، فأصبح لهم مكانة دينية كبيرة بين مسيحيي غربي أوربا، وأصبح كلوفيس وخلفاؤه حماة لها. ونزل ملوك الميروفنجيين عن كثير من صلاحياتهم الدينية لمصلحة الكنيسة مقابل احتضان الكنيسة مملكتهم ودعمهم في مشروعاته السياسية والعسكرية ضد كل القوى الجرمانية في غاليا.

فرنسا في العصور المتوسطة المبكرة

A view of the remains of the Abbey of Cluny. This church was the centre of monastic life revival in the middle age and marked an important step of the cultural rebirth following the Dark Age.
Godefroy de Bouillon, a French knight, leader of the First Crusade and founder of the Kingdom of Jerusalem.

المروفنجيون 511-614

كان كلوفيس يتوق إلى أن يكون له أبناء ذكور، وقد كان له قبل وفاته أكثر مما كان يحب، ولهذا قسم مملكته بينهم لكي يتجنب نشوب حرب للوراثة بعد وفاته. فأعطى كلدبرت Childebert الإقليم المحيط بباريس، وولى كلودمر Chlodemer إقليم أورلين Orleans، وأعطى كلوتار Chlotar إقليم سواسون Soissons وثيودريك إقليم متز وريمز وواصل الأبناء بمهمتهم البربرية السياسية المؤدية إلى توحيد فرنسا عن طريق الفتح، فاستولى على ثوررنجيا في عام 530، وعلى برغندية في عام 534، وعلى بروفانس في عام 536، وعلى بافاريا وسوبيا في 555. وعاش كلوتار بعد أن مات اخوته جميعاً فورث مما لهم، وكانت غالة تحت حكمه أوسع رقعة من فرنسا في العهود المستقبلة. وقبيل موته في عام 561 قسم غالة مرة أخرى ثلاثة أقسام : إقليم ريمز ومتز المعروف بأستراسيا Austrasia (أي الشرق) وخص به ابنه سجيبرت Sigebert، وبرغندية وأعطاها إلى جنثرام Gunthram، وأعطى إقليم سواسون المعروف بنوستريا Neustria (أي القسم الثاني الغربي) إلى كلبريك Chilperic. ولقد كان تاريخ فرنسا منذ زواج كلوفيس إلى وقتنا هذا مزيجاً من الرجولة والأنوثة جامعاً بين الحب والحرب. من ذلك أن سجيبرت أرسل هدايا غالية إلى أثاناجلد Athanagild ملك أسبانيا برنهلدا Brunhilda، ووافق أثاناجلد على هذا الزواج لخوفه من الفرنجة وإن أرسلوا الهدايا؛ وأقبلت برنهلدا لتزدان بها أبهاء متز وريمز (566). ودب الحسد في قلب كلبريك، لأنه لم يكن له إلا زوجة ساذجة تدعى أودوفيرا Audovera وعشيقة فظة تدعى فردجندا Fredegunda، فطلب إلى أثاناجلد أن يزوجه أخت برنهلدا؛ وجاءت جلزونثا Galswintha إلى سوسوان وأحبها كلبريك لأنها جاءت معها بكنوز عظيمة، ولكنها كانت أكبر سناً من أختها؛ فعاد كلبريك إلى أحضان فردجندا . وطلبت جلزونثا أن تعود إلى أسبانيا، فأمر كلبريك بقتلها خنقاً (567)، وأعلن سجيبرت الحرب على كلبريك وهزمه، ولكن فردجندا بعثت إليه بعبدين قتلا سجيبرت، وقبض على برنهلدا ولكنها استطاعت الفرار وتوجت ابنها الشاب كلدبرت الثاني، وحكمت البلاد باسمه حكماً أظهرت فيه كثيراً من الحزم والكفاية.

ويصف المؤرخون كلبريك كأنه نيرون ذلك الوقت وهيروده، يصفونه بأنه غليظ القلب، سفاك للدماء، شهواني نهم شره، في جمع الذهب. ويفسر جريجوري التوري، وهو عمدتنا الوحيد في هذه المعلومات، تلك الصفات إلى حد ما بأن يصوره كأنه فردريك الثاني في عصره، فيقول إن كلبريك كان يسخر من فكرة وجود ثلاثة أشخاص في إله واحد، وبتصوير الله كأنه إنسان، وكان يعقد مع اليهود مناقشات مزرية، ويحتج على ثروة الكنيسة الطائلة، وعلى نشاط الأساقفة السياسي، وألغى الوصايا التي يترك بها الناس ما لهم للكنائس، وكان يبيع كراسي الأساقفة لمن يؤدي أكثر الأثمان، وحاول أن يخلع جريجوري نفسه من كرسي تور(51). ويصف الشاعر فرتناتوس هذا الملك نفسه بأنه جماع الفضائل، فهو حاكم عادل لطيف، شيشرون زمانه في الفصاحة؛ ولكن يجب ألا ننسى أن كلبريك قد أجاز فرتناتوس على شعره.

ومات كلبريك بطعنة خنجر في عام 584، وربما كان طاعنه مسلطاً عليه من برنهلدا، وترك وراءه ولداً رضيعاً هو كلوتار الثاني فحكمت فردجندا نستريا بالنيابة عنه، بمهارة، وغدر، وقسوة لا تقل عن مثيلاتها في أي رجل من رجال ذلك الوقت. من ذلك أنها جاءت بشاب من رجال الدين ليقتل برنهلدا، ولما عاد دون أن يؤدي مهمته أمرت بقطع يديه وقدميه. لكن مرجعنا في هذه الأخبار هو أيضاً جريجوري(53). وكان أعيان أستراسيا في هذا الوقت لا ينقطعون عن الثورة على برنهلدا المتغطرسة، يشجعهم على هذا كلوتار الثاني؛ وكانت تخمد هذه الثورات بقدر ما تستطيع وتستعين على ذلك بالختل والاغتيال؛ ولكنهم أفلحوا آخر الأمر في خلعها وهي في الثمانين من عمرها، وظلوا يعذبونها ثلاثة أيام كاملة، ثم ربطوها من شعرها وإحدى يديها في ذيل حصان وضربوه بالسياط (614). وورث كلوتار الثاني الممالك الثلاث وتوحدت مرة أخرى دولة الفرنجة.

وقد يحملنا هذا السجل الملطخ بالدماء على أن نبالغ في الهمجية التي كانت تخيم على غالة ولما يكد يمضي على موت سيدونيوس المتحضر المثقف قرن من الزمان، ولكن الناس لا بد لهم أن يجدوا وسيلة يستخدمونه إذا أعوزتهم الانتخابات. ولقد أفسد خلفاء كلوفيس ما بذله من جهود لتوحيد البلاد كما فعل خلفاء شارلمان بملكه بعده. على أن أقل مل يقال في هذا الثناء على هذا العهد أن الحكومة قد ظلت تؤدي واجباتها، وأن غالة لم تكن كلها تطيق وحشية ملوكها وتعد زوجاتهم، وأن ما يبدو من استبداد الملوك كان محدداً بقوة النبلاء الذين يحسدونهم على سلطتهم، وكان الملك يكافئهم على ما يؤدون له من خدمات في الإدارة والحرب بأن يهبهم ضياعاً يكادون يكونون فيها سادة مستقلين؛ وفي هذه الأملاك الواسعة بدأ الإقطاع الذي حارب الملكية الفرنسية ألف عام. وكثر أرقاء الأرض، وبدأ الاسترقاق يحيا مرة أخرى بسبب الحروب الجديدة، وانتقلت الصناعات من المدن إلى بيوت الريف، فضاقت رقعة المدن، وخضعت لسيطرة السادة الإقطاعيين؛ وكانت التجارة لا تزال نشيطة، ولكنها كان يقف في سبيلها عدم ثبات النقد، وكثرة اللصوص وقطاع الطرق، وارتفاع الضرائب الإقطاعية. وكان القحط والوباء يحاربان بنجاح غريزة التكاثر الآدمية.

وتزوج زعماء الفرنجة بمن بقي من نساء طبقة أعضاء الشيوخ الغاليين-الرومان، ونشأ من هذا التزاوج أشراف فرنسا. وكانوا في ذلك الوقت أشرافاً يتصفون بالقوة، يحبون الحرب، ويحتقرون الآداب، ويتباهون بلحاهم الطويلة، وأثوابهم الحريرية، وكثرة من يتزوجون من النساء. ولسنا نجد في تاريخ طبقة عليا لا تعبأ بالمبادئ الأخلاقية كما لم تعبأ بها هذه الطبقة؛ ولم يكن لاعتناقها المسيحية أثر فيها على الإطلاق، فقد بدت المسيحية لهم كأنها مجرد وسيلة كثيرة النفقة للحكم وتهدئة الشعب؛ ولما "انتصرت البربرية وانتصر الدين" كانت البربرية صاحبة الكلمة العليا مدى خمسة قرون. وكان الاغتيال، وقتل الآباء، والاخوة، والتعذيب، وبتر الأعضاء، والغدر، والزنى، ومضاجعة المحارم؛ كان هذا كله هو الوسيلة التي يخففون بها ملل الحكم. فقد قيل إن كلبريك أمر بأن يكون كل مفصل من مفاصل سجيلا Sigila القوطي بالحديد المحمى، وأن ينزع كل عضو من أعضائه من موضعه(54)، وكان لكاريبرت Charipert عشيقتان أختان وإحداهما راهبة، وجمع دجوبرت Dagobert (628-639) بين ثلاث زوجات في وقت واحد. وربما كان الإفراط الجنسي هو السبب فيما أصاب المروفنجيين من عقم منقطع النظير: ومن أمثلة هذا العقم أن واحداً لا أكثر من أبناء كلوفيس الأربعة وهو كلوتار كان له أبناء، وأن واحداً من أبناء كلوتار الأربعة كان له طفل. وكان الملوك يتزوجون في الخامسة عشرة من عمرهم ويفقدون متى بلغوا سن الثلاثين، ومات كثيرون منهم قبل الثامنة والعشرين(55). ولم يحل عام 614 حتى كان بيت المروفنجيين قد استنفد جميع حيويته وتأهب لأن يخلي مكانه لغيره.

في غمار هذه الفوضى لم يكد يكون للتعليم وجود، فلم يحل عام 600 حتى كانت معرفة القراءة والكتابة ترفاً لا يتمتع به إلا رجال الدين، أما العلوم الطبيعية فقد انمحت أو كادت. وبقى الطب، لأنا نسمع عن وجود أطباء في حاشية الملوك، أما بين الشعب فقد كان السحر والصلاة في نظرهم خيراً من الدواء. وقد ندد جريجوري أسقف تور (538؟-594) بمن يستخدمون الأدوية بدل الصلوات في علاج المرضى، وقال: إن هذا إثم يعذبهم عليه الله. ولما مرض هو أرسل يدعو إليه طبيباً، ولكنه سرعان ما صرفه لأنه لم ينفعه بشيء، ثم شرب قدحاً من الماء ممزوجاً بتراب جئ به من قبر القديس مارتن شفي على أثره شفاء تاماً(56). وكان جريجوري هذا أشهر كتاب النثر في أيامه، وكان يعرف كثيرين من الملوك المروفنجيين معرفة شخصية، وكثيراً ما كانوا يستخدمونه في بعثات لهم. وقد روى في كتابه تاريخ الفرنجة قصة العصر المروفنجي المتأخر بطريقة فجة، مضطربة قائمة على الهوى والخرافة، ولكنه روى هذه القصة بأسلوب واضح، وكانت حوادثها مما شاهده بنفسه، ولغته اللاتينية فاسدة، قوية، خالية من الالتواء. وهو يعتذر عن أغلاطه النحوية، ويرجو ألا يعاقبه الله في يوم الحساب على ما ارتكبه من إثم بسبب هذه الأخطاء(57). وهو يؤمن بالمعجزات وخوارق العادات، ويتصورها تصور الطفل الذي لا يخالجه فيها أدنى ريب أو يؤمن بها إيمان الأسقف الحصيف الماكر اللطيف ويقول: "وسنمزج في قصتنا معجزات القديسين بمذابح الأمم"(58). ثم يمضي فيؤكد أن الأفاعي سقطت من السماء في عام 587، وأن قرية قد اختفت فجأة بجميع مبانيها وسكانها(59). وهو يشهر بكل شيء في أي إنسان لا يؤمن بالله أو يعمل ما يضر بالكنيسة، ولكنه يقبل ما يرتكبه أبناء الكنيسة المؤمنون من أعمال وحشية، وغدر، وخيانة، وفساد خلقي، ولا يجد في هذا ما تشمئز منه نفسه. وهو صريح في تحيزه وعدم نزاهته، ومن اليسير علينا أن نتغاضى عن بعض عيوبه، والصورة الأخيرة التي لا تنطبع في ذهننا عنه هي أنه رجل ساذج محبوب.

وأصبحت آداب غالة بعده تغلب عليها الصبغة الدينية في موضوعاتها، والصبغة البربرية في لغتها وأسلوبها إلا في حالة واحدة دون غيرها، تلك هي كتابات فنانتيوس فرتناتوس Vanantius Fortunatus (حوالي 530-610) البليغة. وقد ولد هذا الكاتب في إيطاليا، وتعلم في رافنا، ثم أنتقل إلى غالة في الثلاثين من عمره، وكتب يمدح أساقفتها وملكاتها، وأحب ردجندا زوجة كلوتار الأول حباً عذرياً أفلاطونياً. ولما أنشأت هي ديراً صار فرتناتوس قسيساً، ودخل في خدمتها، وما زال يرقى في الدرجات الكهنوتية حتى أصبح أسقف بواتييه؛ وكتب قصائد جميلة يمدح بها الأحبار، والقديسين، منها تسع وعشرون قصيدة في مدح جريجوري التوري وحده؛ ثم كتب ترجمة شعرية للقديس مارتن. وكان أحسن مل كتبه بعض ترانيم حلوة النغم منها واحدة تدعى Pange Lingue أوحت إلى تومس أكوناس بقصيدة تشبهها في موضوعها وتعلو عليها في أسلوبها؛ ومنها قصيدة أخرى تدعى Vexilla Regis أصبحت هي الجزء الأخير من القداس الكاثوليكي. وقد نزع في مزج الإحساس القوي بالسعر البليغ، وإذا ما قرأنا أبياته الدائمة الجدة، اللطيفة الأسلوب، تبينا ما كان ينطوي عليه قلبه من رحمة، وإخلاص، وعواطف رقيقة وسط ما كان يتصف به عصر المروفنجيين من وحشية وجرائم يرتكبها الملوك.

فرنسا في العصور الوسطى

اتبَّع الميروفنجيون نظام تقسيم المُلك بين الأبناء، وهو أمر أدى إلى كثير من الفوضى والحروب الأهلية، كلما توفي الملك، مما أثر في استقرار البلاد، واستغل رجال البلاط الخلافات بين أبناء الأسرة الحاكمة وتمتعوا بنفوذ كبير، وبرز من رجال البلاط بِيبن الثاني أو بيبن هرستال Pépin de Herstal منذ أواخر القرن السابع الميلادي، فسيطر على الدولة الميروفنجية، وتبعه في ذلك ابنه شارل Charles Martel ما بين (714-741م) الذي دعم نفوذه، وجعل السلطة الفعلية في يده من دون الملك، وخاض ضد المسلمين معركة بواتييه Poitiers «بلاط الشهداء» (732م) التي اسـتشهد فيها القائد العربي عبد الرحمن الغافقي. وقد أضفى هذا النصر على شارل مكانة وقوة أكسبته لقب مارتل «المطرقة»، وأصبح بذلك بطل أوربا الأول.

ظهر ضعف ملوك الميروفنجيين، فاجتمع المجلس العام لشعب الفرنجة، وعـزل آخر ملوك هذه الدولة، وأحلَّ مكانه ِبيبن القصير le Bref ابـن شـارل مارتل (751-768م)، وبدأ حكـم دولـة فرنجية جـديدة هي الدولة الكارولنجية Carolingienne ما بين (751-987م) - من سلالـة رؤسـاء بلاط أوستراسيا Austrasie - فأصبحت هذه الدولة أعظم قوة سياسية في غربي أوربا بفضل تحالفها مع البابوية، وكان البابا يتوّج ملوكها بيده.

يعد شارلمان Charlemagne بن ِبيبن القصير والذي حكم بين عامي 768-806م وتوج عام 800م امبراطوراً على الغرب، أعظم ملوك الكارولنجيين، إذ حقق انتصارات كثيرة في أوربا، وتمكن من إحياء الامبراطورية الرومانية، إلا أنه هُزم أمام الجيوش الإسلامية في الأندلس، وخسر معظم قادته، وعلى رأسهم رولان Roland في معركة رونسفو Roncevaux عام 778م. ولم يقتصر اهتمام شارلمان على السياسة والحرب، بل شجع الأدباء والعلماء، واهتم بالمكتبات ونسخ الكتب وتصحيحها، واستحدث كثيراً من التشريعات الإدارية والقضائية، واهتم بالزراعة والصناعة، وبدأت تظهر في عهده بذور النقابات لحماية الصناعيين من المنافسة الخارجية، كما اهتم بتنظيم التجارة الداخلية والخارجية وتشجيعها، وجمع في قبضته القوية زمام السلطتين الدينية والزمنية.

نشبت الخلافات بين أبناء شارلمان بعد وفاته، وخسرت فرنسا المناطق التي كانت تحكمها خارج حدودها، وتعرَّض صغار الملاك للضغط، مما دفعهم إلى البحث عن قوة تحميهم،فوجدوا ذلك في كبار الأمراء الإقطاعيين، وانقسمت فرنسا بذلك إلى أقسام إدارية إقطاعية أو كونتينات تجاوزت الثلائمئة كونتينة، وكانت كل واحدة مستقلة عن الأخرى، يحكمها كونت إقطاعي نائب عن الملك الميروفنجي أو الكارولنجي. وظلت فرنسا على هذا التنظيم الإقطاعي منذ القرن العاشر حتى الثاني عشر.

تعد الفترة بين 855-887م من أحلك عصور تاريخ فرنسا، لعجز الملك عن الوقوف في وجه الغزوات الخارجية بسبب نظام الإقطاع الذي فَرَّق وحدة الدولة، وتعرضت البلاد لغزوات الڤايكنگ Vikings الذين وصلوا إلى باريس وحاصروها، وعجز الملك عن صدهم، ولولا وقوف أودو Odo كونت باريس في وجههم لسقطت في أيديهم، وقد أدى موقف كونت باريس ودفاعه عن المدينة إلى ظهوره بمظهر القوي في وجه الملكية، وأصبح له مكانة كبيرة، واستمر الأمر على ذلك حتى نجح هيو كاپيه Hugués Capet الباريسي في إسقاط الملك الكارولنجي، وتُوِّج ملكاً على فرنسا (987-996م) وبدأ بذلك حكم أسرة كاپيه Les Capétiens الباريسية التي حكمت ما بين عامي 987-1328م، وأصبحت باريس عاصمة فرنسا. وحدثت في فترة حكم هذه الأسرة الحروب الصليبية، وحمل لواء الدعوة لها البابا أوربانوس الثاني Urbanus II الفرنسي، وشارك الفرنسيون فيها بكثرة، وعليه دعي الصليبيون باسم الفرنجة.

لم تستطع أسرة كابيه السيطرة على فرنسا وتوحيدها تحت طاعتها، بسبب سلطات الإقطاعيين والكنيسة، ولذلك حاولت تدريجياً إضعاف سلطتهما، فقد عملت على جعل الأسقفيات والأديرة التي تتمتع بثروة كبيرة خاضعة للملكية، وفرضت عليها دفع مبالغ مالية أنفقتها على تنظيم وقوة الملكية وتدعيمها، كما أخذت بإخضاع الأتباع والفصائل، إلا أنها عجزت عن إخضاع كبار الأمراء الإقطاعيين كلياً، وكل ما استطاعت تحقيقه كان اعتراف الإقطاعيين بسلطة اسمية للملك. وقد دعم ذلك وضع الملكية، وزاد من قوتها بداية ظهور الطبقة البرجوازية.

حاول الملوك ربط الملكية في فرنسا بالطبقة البرجوازية وتحالفوا معها، مما اضطر الإقطاعيين إلى الرضوخ والقبول بمبدأ وراثة العرش، وتعيين الوريث في حياة الملك، ودعمت الكنيسة هذا التوجه وأصبحت سلطة الملك شاملة البلاد كلها، ومسيطرة على جميع الإقطاعيين فيها، ولم يعد الملك مجرد سيد بين الأسياد الإقطاعيين، بل أصبح الممثل الحي للقانون والمسؤول عنه، واتجهت سياسة الملوك نحو توحيد فرنسا تحت سيادة الملك، ومد حدودها، وتحقيق زعامتها على غربي أوربا.

فيليپ الثاني المنتصر في بوڤين Bouvines وبذلك تمكن من ضم نورماندي وأنجو إلى حيازته الملكية. وقد تضمنت تلك المعركة مجموعة معقدة من التحالفات من دول ثلاث هامة، ممالك فرنسا وإنگلترة والامبراطورية الرومانية المقدسة.

بدأت فرنسا تنهض في المجالات العلمية والأدبية والمعمارية كافة، وأخذت تظهر مرهوبة الجانب في السياسة الأوربية بعد انتصار فيليب الثاني أوگست Philippe II Auguste (على الإنجليز) وعلى التحالف الأوربي، وصار لجامعة باريس في عهده دور كبير في الإشعاع الثقافي الأوربي، فقصدها الفلاسفة والعلماء والفنانون لبناء أعظم الكاتدرائيات والكنائس والمعالم العمرانية والجامعات والمراكز العلمية، وقد تمكن لويس التاسع التقي Louis IX، على الرغم من هزيمته في الحملة الصليبية السابعة على مصر التي قادها بنفسه، إلى أن يجعل فرنسا أقوى دولة في أوربا، فقد تمكن من إصلاح الإدارة والقضاء والمالية، وجعل لفرنسا عملة موحدة صالحة للتداول في كل أنحائها، وانحصر التداول في العملات الخاصة في الإقطاعية التي كانت تصدرها.

القديس لويس. شهد عصره توسع ثقافي لفرنسا في العالم المسيحي الغربي.

وبالمقابل تدهورت علاقة الملكية الفرنسية مع البابوية نتيجة محاولة ملوك فرنسا تحجيم دور الكنيسة في الحياة السياسية الفرنسية. وما لبثت أسرة كابيه أن ضعفت بسبب الحرب التي خاضتها والنزاع مع إنجلترا، إضافة إلى الصراعات حول وراثة العرش بعد وفاة آخر ملوكها، واختيار فيليب فالوا Philippe de Valois ملكاً على فرنسا، ولقب بـ «فيليب السادس» وتأسست بذلك أسرة فالوا (1328-1792).

خاضت هذه الأسرة حرب المئة عام (1337-1440) مع إنكلترا، بسبب تنافس الدولتين على إقليم الفلاندر، فأدى ذلك إلى توقف التوسع الزراعي وحدوث مجاعات وأمراض أنقصت عدد السكان، واضطرب الاقتصاد، ولم تعد أسعار النقد مستقرة، وعمت الفوضى والثورات التي قام بها الإقطاعيون والطبقة البرجوازية وعامة الشعب، ثم ما لبث الإقطاعيون أن عانوا مصاعب مالية فبدؤوا بالتخلي عن أراضيهم، وأخذ الأقنان بالتحرر في الأراضي الفرنسية كافة على حساب الإقطاعيين، وانتهت حرب المئة عام، لكن الحروب الفرنسية مع بقية دول أوربا لم تنته.

عانت فرنسا في القرن السادس عشر الحروب الدينية التي نشبت بين الكاثوليك والبروتستنت، وذهب ضحيتها عدة آلاف من البروتستنت، ولم تنته هذه الحروب إلا سنة 1598 بالسماح للبروتستنت بأداء شعائرهم الدينية بحرية، ومع ذلك فقد تكررت الحروب الدينية بسبب تعصب الفرنسيين للكاثوليكية.

بدأت فرنسا منذ الثلث الأخير للقرن السابع عشر سياسة الاستعمار خارج أوربا، وأخذت بالاستيلاء على كندا ولويزيانا والهند، لكن هذه السيطرة لم تستمر إذ رجحت كفة الدعوة الاستعمارية البريطانية، وخسرت فرنسا ممتلكاتها.

قويت الطبقة البرجوازية مرة أخرى في فرنسا، وظهرت طبقة من الفلاحين الميسورين انضمت إلى البرجوازية الوطنية، ونظمت تعاونيات مدنية لتنمية صناعة الحرير، وتقاربت طبقتا النبلاء والبرجوازية من بعضهما، وأصبح لفرنسا جيش نظامي، وبدأ تحرر الشعب وانتشار الأفكار الديمقراطية، واشتدت المطالبة بالإصلاحات الجذرية، فقرر الملك لويس السادس عشر آخر ملوك فرنسا معارضتها بالقوة. وحاول إرضاء الشعب بحل الأزمة المالية الخانقة، وانتهج سياسة اقتصادية زادت الأزمة تفاقماً، فاستاء الصناعيون والعمال الفرنسيون بسبب الخسائر التي منوا بها، واجتمع مجلس طبقات الأمة في فرساي 5 مايو 1789، وطالب أعضاؤه بمطالب لم تتحقق، فأعلنوا أنفسهم جمعية وطنية، وقرروا وضع دستور للبلاد، فعارضهم الملك، مما أدى إلى الهجـوم على الباستيل Bastille في 14 يوليو 1789، وصدور مقدمة إعلان حقوق الإنسان الشهيرة والجمهورية الأولى، وأُشيعت أنباء عن خيانة الملك وزوجته ماري أنطوانيت Marie -Antoinette، فأعلنت الجمهورية الأولى، وحوكم الملك بتهمة الخيانة فأُعدم وزوجته في كانون الثاني 1793، ولكن حكومة الثورة لم تحسن إدارة البلاد، وانتهى الأمر باستيلاء نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte على السلطة في 19 نوفمبر 1799، لتبدأ مع حكمه مرحلة جديدة في تاريخ فرنسا، بل القارة الأوربية برمتها.[2]


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فرنسا في العصور الحديثة المبكرة

Charles the Bold, the last Capetian Duke of Burgundy, died at the Battle of Nancy. His death marked the division of his lands between the Kings of France and Castile.
Henry IV of France, King of France and Navarre, was the first French Bourbon king.

بدأت مظاهر العصور الوسطى تتلاشى في أوربا بدءاً من منتصف القرن السابع عشر، لتأخذ مكانها ملامح العصر الحديث بفعل المنجزات العلمية الجديدة التي تناولت نقد المؤسسات والمعتقدات والمفاهيم، لتنقل بلدان القارة على مختلف المستويات إلى ما يعرف بعصر التنوير. ففي عام 1661 ارتقى سدة الحكم في فرنسا سليل أسرة البوربون Bourbons لويس الرابع عشر Louis XIV ليستمر على العرش أربعة وخمسين عاماً، شكلت الحروب التي خاضها معظم أحداثها، وكانت هذه السنوات في بدايتها مليئة بالأمجاد والانتصارات التي حققتها فرنسا على الساحة الأوربية. ولكن منذ عام 1684 حتى وفاة هذا الملك سنة 1715 أخذت هذه الانتصارات تفقد بريقها في أعقاب حرب الوراثة الإسبانية التي ترافقت مع قيام ثورات داخلية، بسبب المجاعة والكوارث والأوبئة التي تعرضت لها فرنسا وأجبرت الملك على توقيع معاهدة أوترخت Utrecht عام (1713) ليسود السلام بعدها في أوربا نحو ربع قرن. أما حفيده لويس الخامس عشر Louis XV الذي تولى مكانه، فإنه أخفق في بناء إدارة حازمة، على الرغم من طول مدة بقائه على العرش، وعانت فرنسا في عهده كثيراً من المصاعب والأزمات، غير أن الخطر الأبرز نتج من غياب العدالة والمساواة بين طبقات المجتمع إلى جانب فرض الضرائب الباهظة من أجل تغطية نفقات الملك وحاشيته، مما أدى إلى انتشار الرشوة والمفاسد الخُلقية التي عمت المجتمع الفرنسي بأكمله.

فرنسا في العصور الحديثة I (1792–1914)

Louis XIV, the "Sun King"
Lord Cornwallis surrenders at Yorktown to American and French allies.

في هذا الجو العاصف توفي لويس الخامس عشر، وأصبحت فرنسا مهيأة في عهد حفيده وخليفته لويس السادس عشر Louis XVI، للتغيير الكبير المتمثل بالثورة التي أطاحت برأسي الملك وزوجته سنة 1789. وسادت البلاد أجواء مرعبة في ظل حكومة المؤتمر التي أسست للجمهورية الأولى سنة 1793. ولكن نابليون بونابرت N.Bonaparte تمكن في عام 1799 من الاستيلاء على السلطة بعد عودته من مصر، ومع أنه قام ببعض الإصلاحات وحقق كثيراً من الأمجاد العسكرية بعد أن نصب نفسه امبراطوراً على البلاد، لكنه ما لبث أن تراجع أمام أعدائه الكثر في معركة واترلو Waterloo سنة 1815، ليغادر باريس إلى منفاه في جزيرة سانت هيلين Ste.Hélène، وعاد لويس الثامن عشر Louis XVIII حفيد لويس الخامس عشر إلى العرش ليحكم فرنسا حتى وفاته سنة 1824. وفي عهد أخيه شارل العاشر Charles X الذي اتصف بالتزمت، احتلت فرنسا الجزائر وحصل تراجع في نهج الإصلاحات التي كان أخوه قد شرع في تطبيقها، الأمر الذي مهد لقيام ثورة 1830 بزعامةالماركيز ماري جوزيف لافاييت M.J.Lafayette الذي تبنى شعار (عقد قران جمهورية فاضلة على ملك دستوري) ومهّد لوصول لويس فيليب Louis-Philippe إلى سدة الحكم حتى قيام الجمهورية الثانية سنة 1848. وفي تلك المدة ظهرت تيارات سياسية مختلفة تمثلت بأنصار الملك شارل العاشر والبونابرتيين وأنصار الجمهورية، إلى جانب دعاة الفكر الاشتراكي المثالي، أسهمت جميعها في تكوين حركة ليبرالية أعلنت عبرها الجمهورية حتى عام 1851، وتولى الحكومة فيها نخبة من المفكرين والمثقفين الكبار من أمثال لامارتين Lamartine و لوي بلان L.Blanc الذين قاموا ببعض الإصلاحات. غير أن لويس بونابرت L.Bonaparte ابن شقيق نابليون انقلب على مبادئه ونصب نفسه امبراطوراً على فرنسا تحت اسم «نابليون الثالث»، واستمر في الحكم حتى هزيمته في الحرب أمام ألمانيا سنة 1870، حين أُعلن عن قيام الجمهورية الثالثة التي تولى أنصارها تشكيل حكومة وقعت مع الألمان معاهدة سلام، تنازلت بمقتضاها فرنسا عن الألزاس وجزء من اللورين وأسند منصب رئاسة الجمهورية لتيير Thiers حتى عام 1873، ثبَّت في أثنائها دعائم الحكم الجمهوري الذي استمر حتى عام 1945.

بعد إقالة تيير أُسند منصب رئاسة الجمهورية لجول غريفي Grévy الذي عُدَّ عهده نقطة البداية لظهور الاستعمار الفرنسي في إفريقيا والهند الصينية، وفي أيامه بدأت تنتعش الحركة العمالية داخل المجتمع الفرنسي، ولكن غريفي تعرض للحَرَج بسبب فضيحة زوج ابنته دانييل ويلسون D.Wilson الذي أُشيع أنه كان يتاجر في أوسمة الجيش، ومع أن غريفي لم يكن متورطاً في هذه الفضيحة، إلا أنه أرغم على الاستقالة وخلفه في سدة الرئاسة ماري فرنسوا سادي كارنو M.F.Sadi Carnot الذي شهد عهده نمو الحركة القومية والحركة الاشتراكية والراديكالية إلى جانب ظهور التيار الكاثوليكي المحافظ، لكن الحكومة في عهد كارنو أخفقت في تسريع عملية التنمية وتطوير عمل المؤسسات، مما أدى إلى وقوع مصادمات بين العمال ورجال الحكومة، وازداد نشاط العناصر المتطرفة وانتهى الأمر باغتيال كارنو في مدينة ليون سنة 1894 على يد أحد الفوضويين، وأصبح فليكس فور F.Faure رئيساً للجمهورية حتى وفاته سنة 1899. ولعل الحادث الأبرز في عهد فور قضية الضابط اليهودي ألفِرد دريفوس Alfred Dreyfus ووقائع محاكمته وما تركته من تداعيات لم تنته إلا في عام 1906. وفي عهد إميل لوبيه E.Loubet الذي أصبح رئيساً لفرنسا من بعد فليكس، اتجهت الجمهورية نحو النظام العلماني وتمَّ الفصل ما بين الكنيسة والدولة، وصدر ما يعرف بقانون الهيئات الخاص بالهيئات الدينية الذي ألقى بظلاله على العلاقة مع بابا الفاتيكان، وفي عهد لوبيه أيضاً نشأت أزمة حادة بين فرنسا وألمانيا بسبب المشكلة المراكشية.

في عام 1906، انتخب الرئيس أرماند فاليير A.Fallières رئيساً للجمهورية لتكتمل في عهده ملامح النهضة القومية الفرنسية المعاصرة بتأثير من بعض المثقفين الكبار من أمثال شارل مورا Charles Maurras وليون دوديه L.Daudet و موريس باريس B.Barrés الذين كانوا وراء دعوة تطوير قوة فرنسا. ومن أبرز الشخصيات التي تولت رئاسة الحكومة في عهده جورج كليمنصو G.Clémenceau الذي قاد فرنسا إلى النصر أواخر الحرب العالمية الأولى.

فرنسا في العصور الحديثة II (1914-اليوم)

Execution of Louis XVI in what is now the Place de la Concorde, facing the empty pedestal where the statue of his grandfather, Louis XV, had stood.
Napoleon on his Imperial throne, by Jean Auguste Dominique Ingres

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهرت قضايا مهمة أججت الصراع الدولي في أوربا، ومع أن الفترة ما بين 1870 و1914 لم تشهد أي حرب دولية، إلا أنها عرفت بعصر السلم المسلح بسبب تنافس دول القارة فيما بينها للسيطرة على أسواق التجارة العالمية واقتسام مناطق النفوذ، وكانت النتيجة أن انقسمت أوربا إلى معسكرين متقابلين، تكوَّن الأول من ألمانيا والنمسا وبلغاريا، وانضمت إليه الدولة العثمانية. في حين تكوَّن الثاني من بريطانيا وفرنسا وروسيا، وانضم إليها وقت الحرب دول أخرى بلغ عددها 23 دولة، وكيفما كان فقد خاضت فرنسا الحرب العالمية الأولى وعلى رأسها ريمون بوانكاريه R.Poincaré وخرجت منها منتصرة سنة 1918، غير أن اقتصادها الذي كان على حافة الانهيار سبب أزمات داخلية معقدة استمرت فترة طويلة، وزاد من مشكلاتها خسائرها البشرية التي قدرت بنحو 1350000 من القتلى، إلى جانب 3440000 من الجرحى، و446000 من الأسرى، أدخلت البلاد في أزمة خانقة استمرت إلى ما بعد عام 1929 فانتهز اليسار الفرنسي هذه المسألة في الانتخابات العامة وتمكن من تشكيل حكومة راديكالية برئاسة إدوار هيريو E.Herriot، أخفقت بدورها في تجاوز تلك الأزمة، فشكلت حكومة وحدة وطنية سنة 1934 ضمت عناصر من أقصى اليمين وأخرى من أقصى اليسار برئاسة دوميرغ Doumergue مهدت لحكومة ليون بلوم Leon Blum التي سقطت عام 1938 بسبب موقفها المتخاذل من الحرب الأهلية الأسبانية التي أعادت النظام الملكي إلى إسبانيا.

دخلت فرنسا الحرب العالمية الثانية إلى جانب بريطانيا وعلى رأس حكومتهاإدوار دالادييه E.Daladier، غير أن قواتها التي اكتفت بتحصينات ماجينو Maginot، لم تصمد أمام الهجوم الألماني، إذ سرعان ما دخلت القوات الألمانية إلى باريس ووقعت مع حكومتها اتفاقاً لوقف إطلاق النار سنة 1940 كان من نتائجه أن انقسم الفرنسيون بين مؤيد ومعارض، ففي حين شكَّل الجنرال بيتان Pétain حكومة فيشي الموالية لألمانيا، غادر دوغول De Gaulle إلى لندن، ومن هناك وجه نداءه الشهير إلى الفرنسيين يدعوهم فيه إلى متابعة القتال ضد القوات الألمانية، وقام بتشكيل لجنة وطنية كانت نواة الحكومة المؤقتة التي تابعت أعمال المقاومة المسلحة ضد الجيش الألماني، وفي عام 1944 تمكنت قوات ديغول ومعها قوات بريطانية وأمريكية من طرد الألمان من الأراضي الفرنسية.

بعد نهاية الحرب صوت الفرنسيون لمصلحة حكومة برلمانية فاز فيها تحالف اليسار وحركة الجمهوريين، لتبدأ الجمهورية الرابعة عهدها برئاسة فانسان أوريول V.Auriol. استمرت الجمهورية الرابعة ما بين سنة 1945 وسنة 1958 تعرضت فيها السياسة الفرنسية لمتغيرات وانقسامات أدت إلى ظهور قوى جديدة مثل القوة العمالية، والتجمع من أجل الجمهورية في الوقت الذي كانت تواجه فيه الحكومة تحديات صعبة تمثلت بالوضع الاقتصادي شبه المنهار، إلى جانب ثورات التحرر التي اشتعلت في المناطق التي كانت تسيطر عليها فرنسا كثورتي المغرب وتونس (1952)، والجزائر (1954)، وثورات الهند الصينية التي أجبرت الرئيس منديس فرانس M.France على توقيع اتفاق جنيف القاضي بانسحاب الجيش الفرنسي من ڤييتنام في أعقاب هزيمته في معركة ديان بيان فو Dien Bien Phu، ولهذه الأسباب وغيرها حل البرلمان الفرنسي وتشكلت حكومة جديدة ترأسها السياسي الاستعماري المعروف غي موليه Guy Mollet الذي كان من نتائج سياسته الرعناء، ولاسيما تورطه في حرب السويس، أن مهد لعودة دوغول إلى السلطة بمساعدة بعض الضباط سنة 1958 ليضع هذا الأخير أساس الجمهورية الخامسة، ويؤسس لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية الجديدة (الدوغوليين) الذي سيطر العديد من أفراده على مجمل الحياة السياسية عن طريق الاستفتاء الشعبي، وأقر ديغول باستقلال الجزائر على الرغم من وجود تيار معارض بين صفوف أتباعه حاولوا التمرد عليه بل واغتياله عبر ما يعرف بمنظمة الجيش السري، إلا أن ديغول استمر في تطبيق نهجه السياسي المستقل عن سياسة الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي، متحرراً من العقدة الاستعمارية، وموثقا علاقاته بدول العالم الثالث، وفي عهده اعترفت فرنسا بالصين الشعبية وعارضت سياسة الولايات المتحدة في ڤييتنام، وعملت جاهدة على منع دخول بريطانيا إلى السوق الأوربية المشتركة لكونها رأس الجسر الذي يمكن أن تعبر منه الولايات المتحدة إلى القارة الأوربية. وقد استمر ديغول على النهج نفسه إلى أن استقال من منصبه سنة 1969 في أعقاب ثورة طلابية قادتها بعض العناصر من الأوساط اليسارية، مدعومة بعناصر عمالية، لكن تياره استمر بالحكم عبر فوزه بالانتخابات البرلمانية وأوصل جورج بومبيدو G.Pompidou إلى سدة الرئاسة. ومن أجل التخفيف من حدة المواجهة مع الخصوم السياسيين أدخل بومبيدو بعض الإصلاحات على نهج سلفه، ولكن بعد وفاته بدأ الضعف يدب في أوصال التيار الديغولي وتمكن الجمهوريون المستقلون المنشقون عن ذلك التيار بزعامة فاليري جيسكار ديستان V.Giscard D’Estaing من الفوز بانتخابات الرئاسة، وصار ديستان رئيساً للجمهورية و جاك شيراك J.Chirac المتحالف معه رئيساً للوزارة، بيد أن الرئيس المنتخب دخل في خلافات مع رئيس حكومته أسفرت عن استقالة الأخير من منصبه مما زاد في حدة الأزمة السياسية والاقتصادية، والتي استغلها مرشح اليسار فرانسوا ميتران F.Mitterrand فمهدت لوصوله إلى رئاسة الجمهورية عام 1981. ومع أن ميتران قام ببعض التحسينات والإصلاحات وتوسيع قاعدة تمثيل العمال، غير أنه لم يتمكن من حلَّ مشكلة البطالة المتفاقمة على مدى فترتين من رئاسته، الأمر الذي أثر في شعبية التيار اليساري، فأخذ يسجل تراجعاً في الأوساط السياسية خاصة بعد انحيازه الواضح لسياسة الولايات المتحدة والتعاطف الملحوظ مع دولة إسرائيل، في حين تميزت علاقته مع الاتحاد السوڤييتي آنذاك بالانكماش والبرود، وللخروج من هذا المأزق عاد شيراك إلى رئاسة الوزارة مرة ثانية لتحكم فرنسا من قِبَل رئيسين، فيما عرف بتجربة التعايش (رئيس جمهورية يساري، ورئيس حكومة يميني) ومع ذلك استمرت الأزمة، وزادت نسبة البطالة على 3 ملايين عاطل عن العمل حتى نهاية عهد ميتران. ففقد اليساريون أملهم في انتخابات 1995، وعاد الديغوليون إلى السلطة من جديد بزعامة جاك شيراك الذي بدأ مشروعه السياسي بالبحث عن موقع دولي يليق بفرنسا في محاولة للتخلص من هيمنة القطب الواحد، ويبدو أن هذه المحاولة تضاءلت في الفترة الأخيرة بعدما أقنعت حكومة الولايات المتحدة باريس بأن انقسام الغرب في مواجهة الشرق لم يعد ممكناً بعد اليوم، وأن صدام المواقف لن يكون في مصلحة مواءمة المصالح فتراجعت حكومة شيراك عن بعض الثوابت على النحو الذي بات معروفاً عند الجميع.ref>فرنسا في العصر الحديث, الموسوعة المعرفية الشاملة</ref>

انظر أيضا

Napoleon Bonaparte retreating from Moscow, Russia after a disastrous campaign.
Napoleon III, Emperor of the French
A French woman returns when the Germans retreat from her district and finds her home in ruins.
Signing the Treaty of Nice

قراءات إضافية

نصوص عامة

  • André Maurois, A History of France

فرنسا في القرن 20

  • Robert Gildea, France Since 1945
  • Tyler Stovall, France since the Second World War.

وصلات خارجية

المصادر